وحي القلم

أستعيدوا لبنان.. قبل فوات الأوان (١)

بقلم: اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

وا آسفاه على لبنان:

نداء عاجل نابع من قلب صادق، إلى جميع الإخوة اللبنانيين الشرفاء: استعيدوا بلادكم من فك هذا الوحش المفترس قبل فوات الأوان.

صحيح، ليس ثمة من يعرف قيمة بلادكم الرائعة الوادعة الجميلة أكثر منكم، فأهل مكة أدرى بشعابها كما نقول نحن هنا، من حيث موقعها الإستراتيجي المتميز، وتنوعها العرقي والإثني، وتراثها الثقافي الغني، وعراقتها الحضارية، وطبيعتها الخلابة الغنية بجبالها الشامخة الراسخة، وأنهارها الصافية الرقراقة العذبة، وبحرها الرائع الواسع بشواطئه الهادئة الدافئة، وشجر الأرز الشامخ الثابت الراسخ الذي يحكي قصة تاريخها عبر الحقب، وأرضها الخصبة التي تزينها الورود والأزهار حيثما يممت وجهك في ربوعها الوادع الجميل.

لا أدري لماذا؟ غير أنني كلما جاءت سيرة لبنان على اللسان، تداعت أمام ناظري لوحة فسيفسائية خلابة، يزينها شيء من كل عنصر من عناصر الجمال والروعة التي تعارف عليها الإنسان على مر التاريخ؛ تتألف من حشد متنوع من مثقفي لبنان وشعرائها الفطاحلة وأدبائها وفنًانيها ومسرحييها الذين تفتحت عليهم أعين الشباب العربي في كل الحقب تقريبا من أمثال: بولس سلامة، صاحب ملحمة عيد الرياض البديعة، إلياس طعمة، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، وغيرهم من شعراء المهجر من أمثال مي زيادة، غادةالسمان، نزارقباني حتى مع اختلافنا معه أحيانا وبعض مآخذنا عليه لما جاء في بعض شعره من وصف مجحف في حقنا نحن هنا في جزيرة العرب، سامحه الله. فيروز الصوت المعتق، السنيورة صباح، وديع الصافي، آل الرحباني؛ وغير ذلك كثير من صالونات الأدب التي أثرت الثقافة في كل البلدان العربية دونما استثناء، فالكل يعلم أن لبنان شهدت أول مطبعة في التاريخ على مستوى العالم العربي.

ونتيجة هذا الزخم الثري الذي تزخر به أرض لبنان، بل حتى سماؤها الصافية الجميلة بلونها البهي وطقسها الرائع البديع الذي يشرح النفس، طالما قصدها العرب، لاسيما نحن هنا في خليج الخير منذ عقود، للاستثمار والتجارة والسياحة والطبابة أيضا، ليس هذا فحسب، بل كانت لبنان وجهة كثير من الغربيين الذين يتوافدون إليها للاستمتاع بأشعة شمسها الدافئة، وشواطئها الجميلة الهادئة، وحدائقها الخلابة، وجبالها الشامخة، ومطاعمها الفاخرة الشهية اللذيذة، وفنادقها الرائعة، وارتياد صالونات الفكر والأدب والثقافة في شارع الحمراء الشهير، واستكشاف ثقافة أهلها وعاداتهم وتقاليدهم والاطلاع على تاريخهم العريق.

ولهذا يتفطر الكبد حسرة اليومَّ وحزنًا على هذاً البلد الرائع الوادع الجميل، الذي يشكل تحفة فنية ساحرة أهلته ليكون فعلا سويسرا الشرق بجدارة كما نعته كثيرون.

أقول بكل صدق وألم شديد يعتصر القلب لما آل إليه حال لبنان الذي عانى كثيرا عبر تاريخه، ليس أقل من معاناته بسبب تلك الحرب الأهلية الضروس القذرة النتنة التي أتت على الأخضر واليابس، واكتوى بلهيبها كل بيت في لبنان دونما استثناء.

كما أن قدر لبنان الذي جعله أحد دول المواجهة مع
عدو شرس، عطل عجلة التنمية فيه كثيرا جدا. فكلما حاول هذا البلد النهوض من كبوة، غرس العدو الصهيوني أنيابه الحادة السامة في جسده النحيل، فأقعده سنين عددا، بل تعرض لبنان للاجتياح أكثر من مرة، وتحول إلى ساحة مستباحة لتصفية الحسابات بين الغرماء؛ ووظف العدو الصهيوني أتباعه من بعض أبناء لبنان أنفسهم للأسف الشديد لاحتلال جزء عزيز من أراضي لبنان، ونفث سمومه عبر عملائه وتجار السياسة والمرتزقة وسماسرة الحروب والسلاح، ليمزق أوصال البلاد إربا إربا، ويشعل فتيل فتنة عمياء لا تفرق بين حق وباطل؛ تماما كما تفعل الدولة الصفوية اليوم التي توجت جهودها في معاداة العرب منذ عهد الدولة الساسانية بتشكيل ما يعرف بـ (حزب الله) الذي أصبح دولة داخل دولة، بل قل دولة أقوى من الدولة اللبنانية نفسها، بجيشه الجرار، وسلاحه الفتاك، وخبرائه العسكريين، ومخابراته وعملائه ومرتزقته وموارده الهائلة التي لا تجد غضاضة في زراعة المخدرات بكل أنواعها وتصديرها للعالم، خاصة لدول الخليج العربي، ما دامت توفر له حاجته من المال خدمة لأجندة إيران في المنطقة.. وأسوأ من هذا كله، عقيدته القتالية التي تمجد دولة الولي الفقيه وتقاتل خدمة لثورتها البائسة ومشروعها الاستعماري التوسعي.

وللأسف الشديد، نجح هذا الوحش المفترس في تعطيل الحياة السياسية في لبنان وشل حركة البلاد التجارية والاقتصادية، وليته اكتفى بهذا، وإن كنا نتمنى للبنان كل خير، ويسوؤنا حتى إن شاكته شوكة؛ غير أن هذا الوحش المفترس الذي أطلق على نفسه اسم (حزب الله) تقية، لكي يخدع السذج، سعى جاهدا لتشغيل أوامر مشغليه، فأوفى لنا في دول الخليج الكيل والميزان سَّبًا وشتمًا وتعريضًا وتهكمًا وسخرية وتحاملا واتهاما بالباطل، لاسيما لنا نحن هنا في أرض الحرمين الشريفين، دولة الرسالة السامية العظيمة، عبر عملائه وأبواقه المأجورة في حكوماته المزيفة التي اشترك فيها هذا العدو الشرس العميل بالتي هي أخشن مدفوعا من دولة الولي الفقيه. وقطعا لن يكون آخرها تصريحات وزير إعلام إيران في لبنان بالوكالة المدعو جورج قرداحي.
ً
والحقيقة، استغرب كثيرا قبول الإخوة اللبنانيين الراشدين الأوفياء لبلادهم المخلصين لعقيدتهم ولأمتهم في حكومات لبنان المتعاقبة، أشخاصا من منتسبي (حزب الله) مثل شربل وقرداحي هذا وغيرهما، حتى إن تم فرضهم عبر فوهة البندقية والوعيد والتهديد، لإفتقارهم لأدنى درجات المعرفة بطبيعة العمل الدبلوماسي وشروطه ومواصفاته واللباقة التي تستدعيها مصلحة البلاد، قبل أن تتطلبها شروط المنصب الوزاري المهم.

ولهذا لا استغرب أن يسيء(مسؤول) يفتقر للمعرفة الدبلوماسية للدولة السعودية التي طالما ًحملت هم لبنان رَّبما أكثر من كثير من اللبنانيين أنفسهم، إذ وضعت حدا لأبشع حرب أهلية شهدتها لبنان عبر تاريخها في مؤتمر الطائف الشهير عام 1989م، وضخت في جسد الاقتصاد اللبناني منذ حينها حتى اليوم أكثر من سبعين مليار دولار أمريكي، وبلغت وارداتها السنوية دعما لاقتصاد لبنان أيضا نحو مئة مليون دولار أمريكي؛ فضلا عن مساهمة السعودية السخية التي شهد بها العالم ضمن جهود دول الخليج العربي لإعمار لبنان، كلما حطم العدو الصهيوني بنَّيته التحتية نتيجة مراهقات أولئك العملاء الأنذال.

ليس هذا فحسب، بل وفرت السعودية فرص عمل لأكثر من ثلاثمائة وخمسين ألف عائلة لبنانية وفق تقارير البنك الدولي التي تؤكد أن عائدات لبنان من العملة الصعبة التي يوفرها أبناؤه ًالعاملين في الخارج في شتى ربوع العالم، تبلغ سبعة مليارات دولار أمريكي سنويا (60%) منها تأتي من دول الخليج وحدها، بل أكثر من هذا: معظمها يأتي من السعودية. وبجانب هذا كله، كانت قوافل السعودية أول الواصلين على الدوام تلبية للنداء كلما استغاث لبنان نتيجة أزماته المعقدة المصطنعة بسبب وكلاء إيران على أراضيه.

وسقط القناع:

ومع هذا كله، عجزت حكومات لبنان المتعاقبة عن تقديم الحد الأدنى لدول الخليج، خاصة للسعودية، من التعاون المطلوب فيما يتعلق بإيقاف التدريب وتقديم الدعم والمساعدة لمليشيا الحوثيين الإرهابية في اليمن الذي كان ذات يوم سعيدا، فعاد به هؤلاء الإرهابيين إلى عصور الظلام؛ بل أعجب من هذا كله وأغرب، وأكثر ألما على لبنان ووأسفا على الإخوة اللبنانيين الشرفاء، بعد شربل وقرداحي، ظهر وزير خارجية لبنان المدعو عبد الله بوحبيب على الفضائيات وهو يتأبط رزمة من ملفات ضخمة واعدا بإدارة خلية يتولى أمرها شخصيا بصفته رئيس الدبلوماسية في بلاده لإصلاح ما أفسده قرداحي وقبله شربل وأشباههما من المستوزرين من خريجي مدرسة المشاغبين الذين أحسب أن شاعرهم إلياًس طعمة، ابن قرية قرنة الحمراء في قلب جبل لبنان، كان يخاطبهم حصريا، بالطبع معهم حتى وزير الخارجية هذا، عندما أنشد في قصيدة له بعنوان، أحب بلادي: لقد فقد العرب أخلاقهم.. فسادت عليهم جموع العجم.

أجل، لقد فسدت أخلاق هذه الشرذمة من المستوزرين، وإن كنت استغرب كثيرا انتماءهم لأمة العرب، فالعربي معروف بأصالته، وصدق انتمائه، وانسجامه التام بين الفكرة والكلمة والموقف. فكان حريا بالعجم في فارس أن يبسطوا نفوذهم على لبنان.

أقول، أرغى وزير خارجية لبنان المدعو عبد الله بوحبيب وأزبد مؤكدًا أنه سيتولى إدارة خلية الأزمة تلك لإصلاح ما أفسده قرداحي مع السعودية، فتفاءلنا خيرا حبا للبنان وشفقة على أهله.. ثم كانت المفاجأة: جاءنا بوحبيب هذا بما عجز عنه الأوائل من المستوزرين من خريجي مدرسة المشاغبين، من سب وشتم، وإساءة وتهكم، وتشهير وسخرية بلهجة استعلائية وصفاقة ولغة ساقطة أقرب لمنطق رجل الشارع من منطق رجل يفترض أنه الثاني في حكومة
بلاده والناطق الرسمي باسمها؛ ناكرا لكل هذا الجميل الذي أسدته دول الخليج، خاصة السعودية، للبنان من دعم سخي عبر عقود، لم تفرق فيه بين اللبنانيين باختلاف مشاربهم المذهبية وانتماءاتهم الطائفية والعقدية؛ لأنه كان دعما صادقا لأشقاء ًشركاء في الهدف والمصير.

ليس هذا فحسب، بل يذهب بوحبيب هذا بعيدا في ولوغه في نكران الجميل حسبما سمع العالم تسجيلاته الصوتية السرية التي تناقلتها الفضائيات يوم الأربعاء الثالث من نوفمبر 2021، لينتقد السفير السعودي في بيروت وليد بخاري لعدم تواصله معه عبر الهاتف، بل بلغت به الصفاقة حدًا يجرؤ معه لاتهام أرض الحرمين الشريفين بأنها سوقا رائجة لسمومهم من المخدرات، مشِّبها الوضع في هذه الحالة بين لبنان وبين السعودية بالعلاقة بين المكسيك وبين أمريكا، ثم يوغل رئيس الدبلوماسية اللبنانية، أو هكذا يفترض أن يكون، بعيدا أيضا ليتهم دول الخليج بمسايرة السعودية فيما تتخذه من قرارات وإجراءات تجاه لبنان بسبب سيطرة إرهابيي (حزب الله) عليه ومراهقات بوحبيب وأمثاله من المستوزرين.

والحق يقال، ربما أجد له هنا عذرا، لأن مثله لا يعرف معنى الالتزام الذي تفرضه وشيجة القربى والنسب والجوار، قبل أن تفرضه وحدة الهدف والمصير والعهود والمواثيق التي تجمع دول مجلس التعاون الخليجي في وحدة استثنائية في العالم كله يغبطنا عليها الصديق، ويحسدنا عليها عبد الله بوحبيب هذا وأمثاله.

ومع كل هذا، بعيدا عن هذه العمالة النتنة، وهذا السقوط الأخلاقي المريع وهذا الجهل المطبق، اطمئن الجميع أنه لا أحد بمقدوره تهديد أمن َأرض الحرمين الشريفين واستقرارها مهما فعل، إذ يحرسها من لا تأخذه سنة ولا نوم، ثم تقوم على أمرها حكومة رشيدة، ويحرس ثراها الطيب الطاهر أسود أشاوس، نذروا أرواحهم الطاهرة وأنفسهم الزكية لحماية دولة الرسالة والذود عنها بكل غال ونفيس، غير آبهين بما ينالهم من تعب ونصب، ولا ملتفتين لمراهقات المستوزرين من خريجي مدرسة المشاغبين.

بقلم: اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى