المملكة مهدت الأرض وجمعت الفرقاء وتبني المستقبل للمنطقة والعالم
إن رمزية القمة في إعادة لم شمل الأمة العربية يبقى عنصراً فاعلاً في وجدان الدول العربية من الخليج إلى المحيط، حيث تعد أرض الحرمين جامعة للجميع، في وقت عجز فيه الآخرون عن اتخاذ تلك الخطوة، فالبعد الأول الذي يُعطي لهذه القمة معنى إضافيًا هو مكان انعقادها، والبعد الثاني هو طبيعة اللحظة الجيوسياسية التي تعيشها المملكة ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، ثم يأتي البعد الثالث المتمثل في الاتفاق السعودي – الإيراني بضمانته الصينية، وأثر ذلك سياسياً واقتصادياً على مجريات الأحداث العالمية والإقليمية، أما البعد الرابع، فيتمثل في تغيير سياسات المملكة الرامية إلى “تصفير” المشكلات، والالتفات بقوة صوب الملف الاقتصادي الذي تطمح إليه المملكة وولي عهدها، حفظة البه من خلال عدد من المشروعات العالمية غير المسبوقة على خريطة الاستثمار العالمي، إضافة لجهودها في ملفات الطاقة التقليدية والمتجددة، وما حققته من نجاحات كبيرة، ويدعم كل ذلك توجه المملكة أن تكون عاصمتها الرياض مركزاً لوجستياً محورياً عالمياً، تزيد من أهميته الطفرة في الموانئ البرية والبحرية والجوية، وأسطول الطائرات العملاقة التي تم التعاقد عليه مؤخراً.
إن القمة العربية في دورتها الـ (32) المنعقدة بمدينة جدة، تنظر في عدد من القضايا المهمة والحساسة، لأن العالم العربي، يمر بمرحلة تطور وإعادة تشكيل، يتمثل ذلك في صياغة المعادلة الاجتماعية الداخلية، وكذلك العلاقات الإقليمية الحالية وتأثيراتها على الساحة الدولية، وتأثير العالم عليها، فلا يختلف أحد على أن العالم العربي مر بتجارب صعبة خلال نصف القرن الأخير، من احتلال للأراضي وعدم الاستقرار والضغوط والاستغلال الأجنبي، ومازال الطريق طويلاً لتحقيق الأهداف والتطلعات المنشودة التي تتطلب سياسات حكيمة وإدارة رشيدة من الجميع، ونتطلع إلى الاستقرار السياسي، ووقف المعارك والوصول إلى توافق مجتمعي سياسي في ليبيا واليمن والسودان، وقبلهم الصومال، ويجب أن يتم استغلال النفوذ القوي للمملكة العربية السعودية وتأثيرها في حل تلك المشكلات، وقد رأينا ما حققته من نجاحات في الملف السوري، وحالياً الملف السوداني، وقريباً الملف اليمني.
إن الدول العربية أصبحت أكثر يقيناً بأن عليها أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا الوطنية والإقليمية لتأمين توازن أفضل في أوضاعها الداخلية، ولتحديث الرؤى وبناء أمل حقيقي لبناء مستقبل أفضل، يجب صياغة تحالفات عربية – عربية وإقليمية.
نرى جميعاً تطوراً في العلاقات العربية الدولية بانفتاح واضح على الصين، وخاصة من قبل المملكة والإمارات، وكذلك بالنسبة إلى مصر وعدد من دول المغرب العربي، ويتم ضبط وموازنة العلاقات مع روسيا والولايات المتحدة والغرب في ما يتعلق بأحداث أوكرانيا، بتصويت الغالبية ضد الغزو، مع احتفاظ الكل بعلاقات جيدة مع مختلف الأطراف وإسهام عدد منهم في الجوانب الإنسانية والإفراج عن الأسرى، وحل مشكلات سلاسل إمداد الغذاء، ونقل الطاقة إلى الدول الأوروبية.
وتظل القمة العربية فرصة سانحة لإرساء ممارسات عربية متجددة أكثر فاعلية واتزاناً دون الصدام مع أحد مع القوى العظمى، ورأينا بوادر الاهتمام بالانضمام والمشاركة في المنظومات محدودة العضوية مثل “البريكس” و”شنغهاي”؛ ليتم تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي من جديد.
وفي القمة وبعدها تظل هناك العديد من القضايا الحساسة والتحديات والعقبات أمام توصل العالم العربي إلى أهدافه المشروعة وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، وعلى رأسها ضرورة كبح جماح التطرف الإسرائيلي بقتل الفلسطينيين وهدم منازلهم بغية تهجيرهم، وإباحة تعرض المستوطنين للمسجد الأقصى وقيام القوات الإسرائيلية بتدنيسه، فيجب اتخاذ موقف قوي للتأكيد على الرفض العربي والإسلامي لهذه الممارسات، وتحفيز المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات ملموسة في هذا الشأن، ليس مجرد الشجب والتنديد.
وفي القمة وبعدها يجب الاهتمام بما يحدث على الساحة السودانية، وتنشيط المواقف العربية من قضية إدارة مصادر المياه في المنطقة، فدول عدة تعاني الفقر المائي وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أمر يتطلب اتخاذ موقف عربي أوسع وأقوى، وطرح مبادئ للتعاون الإقليمي الشرق أوسطي في هذا الصدد تدعم ولا تنتقص من القواعد الدولية، وعدم الالتفاف على مواد القانون الدولي.
من أخطر الملفات العربية ضرورة بلورة رؤية أمنية عربية إقليمية، في ظل انكماش الغطاء الأمني للدول الكبرى بعد أن تحول من ضمان أمني إلى غطاء أمني غير واضح المعالم، ويقتصر على التهديدات الوجودية بحسب تقديرات الدول الكبرى، لذلك نرى أن تكون في الأفق خريطة شرق أوسطية أمنية جديدة في المستقبل على خمسة أعمدة رئيسة، حول حل المنازعات السياسية والتعامل مع الأزمات الطارئة والحد من التسلح ونزع السلاح وبناء الثقة والتعاون، وتأمين المنطقة من أخطار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وتأمين الممرات المائية حفاظاً على أمنها واستقرارها وجاذبيتها الاقتصادية، وذلك باتفاقات إقليمية عربية، ثم دولية.
إننا أمام مرحلة صعبة، فالعالم يشغل نفسه وقلقه من إطلاق حرب عالمية باردة جديدة ، فالفرصة أمامنا لكي نشكّل أمننا واقتصادنا ومن ثم مستقبلنا كله، بتكاتف العرب جميعهم، والوقوف مع الدول غير المستقرة أو الضعيفة أو الفقيرة، وتنشيط التقارب وهذا الدور تلعبه المملكة العربية السعودية باعتبارها رئيس القمة العربية في هذه المرحلة التاريخية الحساسة، ولمدة سنة مقبلة تحمل في طياتها الكثير.