خطيب المسجد النبوي: الدعاء للذرية أساس التربية
حذر إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ د. عبدالباري بن عواض الثبيتي -في خطبة الجمعة-
من اتهام الناس في أعراضهم وتصدير سوء الظن وإصدار الأحكام قبل التثبت، قال الله تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)، مؤكدا بأن من كان مع الله لا يحزن، ومن حفظ الله لا يقلق، ومن أقبل على الله قرت عينه ، ومن عاش في رحاب الدين حماه الله وضمن له السلامة وهناء العيش وبحبوحة الحياة؛ فلا ترهق نفسك بالتفكير، فالله عنده حسن التدبير، ولا تحمل هم المستقبل؛ فالأمر بيد الله.
وقال: احتفى القرآن بسيرة سيدة ماجدة، وامرأة فاضلة وفتاة عابدة قانتة، خلد القرآن ذكرها في سورة سميت باسمها؛ قال تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)؛ زكيت قبل ميلادها، وبزغ فجرها في بيت صلاحه متسلسل، واصطفاؤه مستحق؛ أثنى الإله عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)؛ فعمران والد مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ولهذا قال سبحانه: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ والبيت الذي يظلله الدين، ويضاء بالطاعة، ويحيا بالذكر، ويدور مع الشرع حيث دار؛ بيت كريم يُخرج نباته طيبًا ويثمر بإذن ربه ولو بعد حين.
وأضاف: الدعاء للذرية أساس التربية، ومفتاح الصلاح والإصلاح، لا يفتر لسان الوالدين عن اللهج به، ولا يغفل قلبهما عن استحضاره في كل وقت وحين، ومن الخطورة بمكان؛ أن تخرج الأم عن طورها حال الغضب والانفعال؛ فتدعو على الذرية بالهلاك وعدم التوفيق، فيوافق ساعة إجابة، وامرأة عمران أحاطت النية الصادقة بدعاء خالص أن يتقبل الله منها؛ (فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ)، أي السامع لدعائي، العالم بما يكون صالحًا؛ لأن الإنسان قد يسأل الشيء وليس من صالحه حصوله، فيسند الأمر إلى علم الله عز وجل: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى)، قالت ذلك اعتذار منها إلى الله أنها وضعتها أنثى لا تصلح للخدمة في البيت المقدس، ثم قالت: وليس الذكر الذي أردته للخدمة كالأنثى، الذكر أقوى على الخدمة وتحمل الأعباء وأقوم بها؛ فلا سواء بين الذكر والأنثى بل لكل واحد منهما ميزاته وخصائصه الرجل يفوق الأنثى في شيء، وللأنثى من الخصائص ما يؤهلها لأن تقوم مقامًا لا يقومه الرجال ولا يطيقونه، ومريم الصديقة أنموذج يؤكد هذا المعنى، يشيد بها القرآن، ويجعل مواقفها دروسًا تحتذى للأجيال.
وقال: أيتها الفتاة المسلمة؛ القنوت والسجود والركوع هو من شكر المنعم الذي وهب لك الجمال، ودثرك بالإسلام، ومتعك بالصحة والعافية، وهو حصانة من منافذ إبليس وخطوات الشيطان، وهو موطن التكريم لمن رامت الكرامة، ومحراب العزة لمن ابتغت إلى ربها سبيلاً، وفي أوج المواقف العصيبة والمحن يأتي الفرج ويمتد اللطف قال الله تعالى: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا)، وفي خضم الحيرة الشديدة يأتي التوجيه الرباني: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)؛ صمتت مريم البتول في موقفها العصيب لتعلمنا أن الإنسان يبلغ به الحال في بعض الأحوال مرحلة العجز حتى في الدفاع عن نفسه، فإن هو علم أن الله وليه وهو كافيه؛ كفاه الله شر كل ذي شر، ودفع عنه بأس كل ذي بأس، صمتت مريم البتول في موقفها العصيب لتعلمنا درسًا تاريخيًا أن الصمت في بعض الأحيان أبلغ من الكلام، وأن السكوت أولى من النطق، وتعلمنا كراهة مجادلة السفهاء، فالسكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً.