“العلا” بين الماضي والحاضر.. تستحق أن تجعلها على قائمة سفرك
تزخر المملكة العربية السعودية بالعديد من المعالم الأثرية، التي يعود تاريخها لفترات زمنية ضاربة في القدم، والتي تشكّل وجهة سياحية تاريخية مميزة للعرب خاصة وللعالم عامة، ذلك لكونها شاهدة على العديد من الأحداث التاريخية وعمرانية الأوائل في البناء.
من بين تلك المعالم مدينة العلا، تلك المدينة التي ما إن تطأ قدماك أرضها تجذبك إلى عبق القديم وسحره، حيث الأولين وما عاشوه على اختلاف زمانهم، لذا تعدّ أكبر تراث أثري بالمملكة، هذا إضافة لكونها من أقدم المدن المعروفة في شبه الجزيرة العربية، فتشكّل ثروة وطنية وأكبر تجمع لآثار أقوام وحضارات غابرة من معينية، وديدانية، ونبطية، وحيانية.
بدء الاستيطان البشري على مدينة العلا قبل نحو أربعة آلاف سنة وحتى العصور الحديثة، مما جعلها مدرجة على قائمة منظمة اليونيسكو لمواقع التراث العالمي، حيث يحدثنا التاريخ أن الثموديين خرجوا من جنوب الجزيرة (اليمن)، وانتشروا في أنحاء شتى من الجزيرة العربية، وقد استقر المقام بأحد بطونها في الحجر “مدائن صالح” ومدينة العلا.
على امتداد تاريخها الطويل سُميت العلا بأربعة أسماء، وهي:
ديدان: حيث استوطنها الشعب الديداني وأنشأ فيها مملكته إبان القرن السادس قبل الميلاد، والنسبــة إليها ديداني.
قُرْح: واشتهرت به في العصر الجاهلي، حيث أصبحت سوقًا تجارية مهمة من أسواق العرب في الجاهلية.
وادي القرى: يبدو أنه لما نزل اليهود وادي القرى “العلا” خلال العصر الجاهلي واستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها ثم نزول القبائل عليهم، كما جاء في معجم ياقوت، كثرت القرى في الوادي فقيل وادي القرى، قال أبو المنذر: سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وظل هذا الاسم علمًا عليها حتى نهاية القرن السادس الهجري، والنسبة إليه وادي كعمر الوادي.
العُلا: وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ بداية القرن السابع الهجري.
ترتبط العلا بالمدن المحيطة بها بطرق زراعية؛ فتبعد عن المدينة تقريبًا 300 كم، وعن الوجه 200 كم، وعن تبوك 250 كم، وعن حائل قرابة 400 كم، وخيبر 200 كم، والجهراء 90 كم، وتقع إلى الشمال مباشرةً من مدينة العلا آثار الحجر، المعروفة بمدائن صالح، وهي آثار ترجع إلى حضارة الأنباط قوم نبي الله صالح، أشهرها البيوت التي كانوا يحفرونها في الصخور.
في سنة 2017، صدر قرار ملكي بإنشاء هيئة ملكية لتطوير العلا، يرئسها ولي العهد، محمد بن سلمان آل سعود، وتهدف إلى تحقيق التطور والتحول في محافظة العلا والعمل على البنية التحتية مع التشديد في الحفاظ على تراثها وتاريخها، وإبرازه بالمرافق السياحية المتنوعة والمتوزعة حول طبيعة المدينة، وبالفعل شرعت الهيئة في تنفيذ خطة طويلة الأمد لتطوير المحافظة وتحقيق التحول المستدام وتعزيز مكانتها كإحدى الوجهات الأثرية والثقافية المهمة والنهوض بها لاستقبال الزوار من كافة أنحاء العالم، وتعمل الهيئة على تطوير وتنفيذ مبادرات مختلفة للنهوض بقطاعات الآثار والسياحة والثقافة والتعليم والفنون والبيئة في المحافظة تماشيًا مع أهداف رؤية 2030.
وبالفعل طورت العلا ولازالت تتطور لتكون إحدى الوجهات السياحية الجديدة بالمملكة، فبعد أن كانت شاهدة على الماضي فقط وأحداثه، أصبحت تجمع بين الماضي بعوامله البيئية من صحراء وجبال مشي بينها الأولون، إذ كانت معبرًا رئيسًا لقوافل التجارة منذ العهد القديم بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، واجتذبت السكان وحبذت إليهم الاستقرار فيها وممارسة النشاط البشري على أرضها واستغلال طبيعتها في صنع المدنيات وتكوين الحضارات مما نشهده اليوم ونلمس آثاره، حيث احتضنت عصر ما قبل الميلاد، وعصر ما بعد الميلاد، والعصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والعصر الحديث، لذا تلأتي آثارها في القمة، واليوم بعد تطويرها مواكبة للألفية الجدية سُلطت عليها الأضواء أكثر خلال السنوات الأخيرة، فعدت أرضها شاهدة على الأجيال وتاريخهم.
تضم مدينة العلا العديد من الآثار المميزة، منها:
مدائن صالح: كانت تسمى قديمًا بالحجْر، وهي من المواقع التاريخية العريقة، أدرجت ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، حيث يوجد بها آثار ترجع لفترة ما قبل التاريخ ممثلة في الرسوم الصخرية والرجوم الركامية، كما تنوعت في الحجر النقوش الكتابية بين العربية الجنوبية واللحيانية والثمودية والنبطية واللاتينية والإسلامية، في مضامين تذكارية وتأسيسية ودينية ونقوش ملكية، وهي الأكثر وجوداً في الموقع، الذي بلغ أوج ازدهاره خلال العصر النبطي.ات
البلدة القديمة: وتلك يعود تاريخها إلى القرن الـرابع عشر الميلادي، حيث يبلغ عمرها 650 عامًا، تشكّل أطلالًا لنحو 800 منزل، وترتفع البلدة القديمة 70 متراً عن سطح البحر، وقد هجرها السكان في بداية الثمانيات لتصبح بذلك مزارًا سياحيًّا، تتوسطها قلعة “موسى بن نصير”، والتي تعود إلى القرن الـسادس قبل الميلاد، وهو مبنى من الحجر المشذب المقام على رأس هضبة صغيرة.
جبل إثلب: يقع في الجهة الشمالية الشرقية من مدائن صالح، وهو عبارة عن كتلة صخرية، يتوسطه ممر ضيق يبلغ طوله 40 مترًا، كما يُعتقد أن الأنباط اتخذوه مركزًا دينيًا.
الخريبة (مقابر الأسود): منطقة أثرية تمثل جزءًا من أطلال مدينة دادان القديمة التي تعود لحضارة مملكة دادان العربية، والتي برزت سيادتها في تلك المنطقة في القرن الـ7 قبل الميلاد.
صخرة جبل الفيل: وتقع على بعد 7 كيلومترات إلى جهة الشرق من محافظة العلا، وهي صخرة ضخمة يبلغ ارتفاعها عن الأرض 50 متراً، تتميز بشكلها الفريد الذي يشبه الفيل، وتحيط بالصخرة مجموعة من الجبال ذات الألوان الفاتحة.
حتى الآن يتم تطوير مدينة العلا بآثارها وأجزائها بقيادة رشيدة، ليصبح معمارها منبرًا للثقافة، فالآن عندما تمشي على أرضها لا تنفك تذكر الأولين الذين وطئت أقدامهم أرضها، وخاصة الصحابة الكرام، ستذكر “عمر بن سعيد بن العاص بن أمية”، الذي وليها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك يزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي ذات الوقت ستجد نفسك أمام مكان ينتمي للتطور الحضاري، مكان يعانق الضوء بتصاميم جميلة تستعيد التراث بتضاريس ضاربة في القدم، تجعلك تتنفسها، وتكتشف تاريخها.