في منظر بديع .. شواطئ وجُزر المملكة تستقبل طلائع الطيور المهاجرة في رحلة عودتها إلى أوطانها
تشهد شواطئ المملكة العربية السعودية وأكثر من 1300 جزيرة ممتدة على البحر الأحمر والخليج العربي هذه الأيام وجود عدد من الطيور المهاجرة التي يطلق عليها الطيور الزائرة الصيفية وذلك في رحلة عودتها إلى موطنها الأصلي شمال الكرة الأرضية التي تبدأ من شهر فبراير حتى شهر مايو وذروتها في شهر أبريل الجاري ما يؤكد ما تتمتع به البيئة البحرية في المملكة من مقومات جعلتها المأوى المناسب لتكاثر الطيور المهاجرة.
ويقدر أعداد أنواع الطيور المهاجرة للمملكة بأكثر من 260 نوعاً تقريباً، وتنقسم هذه الطيور التي تصلنا في هذه الأيام بحسب ما ذكر لـ “واس” الخبير الطيور والحياة الفطرية البروفسور محمد بن يسلم شبراق عضو هيئة التدريس بجامعة الطائف إلى ثلاث مجموعات : الطيور المهاجرة المتكاثرة، الطيور المهاجرة العابرة، الطيور المهاجرة المستوطنة غير المتكاثرة.
ومن أهم الطيور المهاجرة التي تأتي للتكاثر بالمملكة الطيور البحرية ويعد الخليج العربي والبحر الأحمر المأوى المناسب لتكاثر عدد منها، وهي تأتي على مجموعتين في أشهر معينة من السنة لتغادر بعد انتهاء الموسم التكاثر الذي يمتد ما بين 3 – 5 أشهر إلى مناطق تقضي فيها فترة أخرى من حياتها، وبحسب دراسات التحجيل للطيور فهناك طيور بحرية تتناسل بالصيف في جزر المملكة وتقضي الشتاء بمناطق بالهند وجنوب شرق آسيا، حيث سجل طائر خرشنة مقنعة في جزر بالخليج العربي بعد تسع سنوات في جزيرة بالي الإندونيسية.
وبخلاف الطيور المهاجرة التي بوسعها التحرك والتنقل في الكرة الأرضية وفق الظروف المناخية المحيطة بها فإن المملكة عرفت بطيور مستوطنة تتنقل بين بيئاتها المتنوعة متأثرة بتغيرات الأحوال الجوية مثل : درجات الحرارة ، ووفرة الغذاء، وهطول الأمطار التي تعد من العوامل المهمة لبقائها على نمط حياتها، وهناك طيور مستوطنة في المملكة يتكاثر معظمها مع دخول أشهر الربيع ويمتد تكاثر البعض منها لفترات الصيف الحارة والمرتبط بهطول الأمطار الصيفية لتقدم لنا دروساً في التكيف مع البيئة الحارة وذلك من خلال بسلوكيات عجيبة للتخفيف من تأثير درجات الحرارة العالية.
ومن أهم هذه الطيور والذي درست تكيفاته مع البيئة الصحراوية هو طائر “القبرة الهدهدية” الذي ذكره الشاعر أمرؤ القيس باسم ( المُكاء وبالجمع المكاكي) في قصيدته :
وأَلْقَى بِصَحْـرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَـهُ
نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ
كَأَنَّ مَكَـاكِيَّ الجِـوَاءِ غُدَّبَـةً
صُبِحْنَ سُلافاً مِنْ رَحيقٍ مُفَلْفَـلِ
ومن نافلة القول إن المملكة تتربع على موقع جغرافي جعلها ممرًا لأهم طرق التجارة القديمة والحديثة بين ثلاث قارات: آسيا وأوروبا وأفريقيا كما أوضحت رؤية 2030، وهي تقع على مدار السرطان الحد الفاصل بين المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة ما بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط ولديها أكبر قاعدة جيولوجية طبيعية ما بين صخور نارية ومتحولة غربا (الدرع العربي) وصخور رسوبية شرقا (الرف العربي) أهلتها في أن تكون من الأماكن الطبيعية الجاذبة للكائنات الحية.
وتحظى الطيور المهاجرة والمستوطنة في المملكة باهتمام بالغ من المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية الذي يشرف على 10 محميات طبيعية، ويعمل على المحافظة على الكائنات الفطرية ومنها الطيور وحمايتها لأن المملكة تقع ضمن مسارات هجرة الطيور ذات الأهمية البالغة للبيئة والتنوع الأحيائي، وعمل المركز على إكثار الأنواع المهددة بالانقراض، وإعادة توطينها في بيئتها الطبيعية مثل: طيور الحبارى، والنعام.
وتَعبر آلاف الطيور المهاجرة أجواء المملكة وتنزل بها لتعيش وتتكاثر قبيل عودتها إلى موطنها الأصلي، ويُشكل تجمعها وتحركها منظرًا جماليًا على الشواطئ والجزر المنتشرة على البحر الأحمر والخليج العربي وهذه المشاهد من اللحظات التي يحرص على رؤيتها العديد من سّياح العالم والمهتمين بالبيئة في حين كشف تقرير البيرد لايف إنترنشونال عن أن دخل العالم سنويا من السياحة في مراقبة الطيور يصل إلى 600 مليار في السنة.
وأوضح المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في تقرير خاص بـ “واس” أن علماء البيئة سجلوا 50 مليار طائر يهاجر سنويا بين مناطق التناسل لتقضي فترة حياتها خارجها، منها 5 مليارات طائر تهاجر بين أيوروآسيا وإفريقيا لكن أعدادها تناقصت خلال السنوات الماضية بنسبة 40 % للطيور المائية و50 % للطيور الجارحة لأسباب عدة، ويوجد في العالم حاليا 10966 نوعا من الطيور منها 1469 نوعا مهددة بالانقراض.
وشكل اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – يحفظه الله – بالمحافظة على البيئة الطبيعية والنباتية والحياة الفطرية وتكاثرها وإنمائها وتنشيط السياحة البيئية دعمًا كبيرًا للبيئة في المملكة إذ صدر أمر سام عام 1439هـ بإنشاء المحميات الملكية، ولها مجلس برئاسة سمو ولي العهد، ويأتي ذلك في إطار حرص خادم الحرمين الشريفين على أن يستمتع المواطنون بهذه البلاد الطاهرة والمقيمون على أرضها بالمحميات الطبيعية دون أسوار أو حواجز لكونها ملكا عاما للوطن.
ومعظم أراضي المملكة صحراوية مما قد يتساءل الإنسان كيف تعيش الطيور في هذه الأراضي؟ لكن المملكة لديها بفضل الله تعالى عوامل بيئية أساسية تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على انتشار الطيور أبرزها : المناخ المتنوع، وارتفاع مستوى سطح البحر، وطبيعة سطح الأرض وتضاريسها، والبيئة النباتية، والجغرافيا الحيوانية في موائل الطيور، وكل هذه العوامل البيئية حظيت ولله الحمد باهتمام الدولة من خلال مبادرات نوعية تجاوزت سقف طموحات علماء البيئة والجغرافيا.
وتجلى اهتمام الدولة في البيئة بإعلان سمو ولي العهد في 27 مارس 2021م عن “مبادرة السعودية الخضراء” و”مبادرة الشرق الأوسط الأخضر” اللتين سترسمان توجه المملكة والمنطقة في حماية الأرض والطبيعة ووضعها في خارطة طريق ذات معالم واضحة وطموحة وستسهمان بشكل قوي بتحقيق المستهدفات العالمية.
وتأكيدا لهذه المساعي الكبيرة أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس اللجنة العليا للسعودية الخضراء في منتدى السعودية الخضراء في 23 أكتوبر 2021 بدء المرحلة الأولى من مبادرات التشجير بزراعة أكثر من (450) مليون شجرة، وإعادة تأهيل (8) ملايين هكتار من الأراضي المتدهورة، وتخصيص أراضي محمية جديدة، ليصبح إجمالي المناطق المحمية في المملكة أكثر من (20%) من إجمالي مساحتها.
كما أعلن سموه عن نية المملكة الانضمام إلى الاتحاد العالمي للمحيطات، وإلى تحالف القضاء على النفايات البلاستيكية في المحيطات والشواطئ، وإلى اتفاقية الرياضة لأجل العمل المناخي، بالإضافة إلى تأسيس مركز عالمي للاستدامة السياحية، وتأسيس مؤسسة غير ربحية لاستكشاف البحار والمحيطات.
وهذه المبادرات النوعية ستسهم بعون الله في تهيئة البيئة المناسبة للكائنات الحية وتقليل تفاوت قدرة الطيور على التأقلم مع الظروف الصحراوية القاسية بالرغم من أن أثر المناخ الحار والجاف قد يُسهم في الغالب في إيجاد بيئة مناسبة للطيور بشكل متباين من ناحية الغذاء والتعشيش، ويتمثل ذلك في وجود أشجار صحراوية في المملكة مثل : الطلح، الغاف، العرعر، المنجروف، النخيل، نخيل الدومة الذي يتغذى عليها طائر سمامة النخيل بالقرب من البحر الأحمر، وأشجار التين، والأراك في المرتفعات الجبلية.
وثمة دلائل علمية ذكرتها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية في كتابها العلمي أطلس الطيور المتكاثرة في شبه الجزيرة العربية تؤكد أن هناك نوعًا من طيور الصحاري الرملية لا تشرب الماء لكن هطول الأمطار الموسمية تعد مصدًرا مهًما لها لوفرة الماء النادر الذي ُسرعان ما تمتصه الأرض، ويجتمع في الغالب في العديد من المناطق الصخرية أو الأحواض المغلقة لتتكّون بحيرات أو ِبرك صغيرة تستمر عدة أيام وأحيانًا عدة ساعات تسهم في جذب الطيور لها والكائنات الحية.
وبين الأطلس أن أي تجمع دائم للمياه في أماكن هطول الأمطار في صحاري المملكة يجتذب الطيور إليه لعدة أشهر لتوفر المياه والغذاء إذ تتكاثر في هذه الأماكن البرمائيات والكائنات غير الفقارية، كما تنبت فيه البذور الموسمية وتزهر النباتات المعمرة بعد أن تكونت بسبب احتباس الرطوبة مدة طويلة بعد الأمطار في حين يُمكن أن يسفر معدل جيد من هطول الأمطار على مدار عام واحد عن حياة نباتية في هذا المكان من الصحراء لعدة أعوام بإذن الله، ويصبح موئلاً للطيور.
وفي سياق ذي صلة، قال رئيس مجلس إدارة جمعية الجيولوجيين السعوديين البرفسور عبدالعزيز بن لعبون في حديثه لـ “واس” : تتفاوت طبيعة الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة في خصائصها الطبيعية في خزن وحبس المياه الجوفية وهذا ما يتيح الفرص للتنوع النباتي في مناطق المملكة، وتشتهر صخور الجرانيت بوجود الطيور في غرب وجنوب شبه الجزيرة لقدرتها على حبس الماء القريب من سطح الأرض أكثر من غيرها من الصخور مما يتيح بإذن الله تنوعًا نباتيًا أكبر.
وأكد أن شبه الجزيرة العربية التي تشكل المملكة مساحة 70% منها تعد من أندر البقاع الجغرافية في العالم من الناحية الجيولوجية لوجود صخور تمثل جميع العصور الجيولوجية، كما أن هذه الصخور متنوعة وتمثل جميع بيئات الترسيب القارية والبحرية والانتقالية، وتمتد أعمار الصخور النارية للدرع العربي ما بين 2400 مليون سنة إلى 542 مليون سنة، أما الصخور الرسوبية الرف العربي فهي منذ 542 مليون سنة حتى وقتنا الحاضر.
وأوضح أن العوامل الجيولوجية جعلت من المملكة مستودعا طبيعيا لكثير من ثروات باطن الأرض المتنوعة من : المعادن الفلزية واللا فلزية، والمياه، والنفط والغاز وغيرها من النعم، في حين كشف تقرير صادر لوزارة الصناعة والثروة المعدنية في فبراير الماضي عن وجود أكثر من 5300 موقع تعديني تقدر قيمتها بنحو خمسة تريليونات ريال (1.3 تريلون دولار)، بما في ذلك عدد من المعادن الأكثر وفرة، مثل الذهب والفضة والنحاس والزنك والفوسفات والبوكسايت والحجر الجيري.
وشهدت شبه الجزيرة العربية في العصور الحديثة تغيرات مناخية مختلفة متذبذبة بين فترات جليدية وفترات مطيرة وفترات جافة أثرت على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وق ّسم علماء الجغرافيا العالم إلى ثلاث ممالك جغرافية حيوية تشترك في كل منها النباتات والحيوانات بسمات إقليمية، وثمة إجماع بين العلماء على أن شبه الجزيرة العربية تقع عند ملتقى هذه المناطق الجغرافية.
وهذا الإجماع العلمي يؤكد وجود طيور في المملكة منحدرة من أصول : أوروبية، وآسيوية، وأفريقية استوائية، وهندية ملايية، وهذه المناطق هي : المنطقة الجغرافية الحيوية الأوروبية الآسيوية ، وتتضمن شمال أورآسيا والبحر المتوسط، وشمال أفريقيا، والشرق الأوسط، والجزيرة العربية، وآسيا الوسطى، ومعظم أرجاء الصين، والمنطقة الجغرافية الحيوية الأفريقية الاستوائية، وتضم : جنوب صحاري القارة الأفريقية، والمنطقة الجغرافية الحيوية الهندية الملايية أو الشرقية، وتضم : باكستان وشرقها، وجنوب جبال الهمالايا.
ومن الطيور المستوطنة في المملكة ولها تقارب جغرافي إحيائي مع طيور أوروبية وآسيوية وإفريقية: طيور حجل فيلبي وتعيش في المرتفعات الجنوبية الغربية وعدد الأزواج منها تصل إلى 250 ألفا، وطيور الحجل العربي وتعيش في المرتفعات الجنوبية الغربية، وشرق المملكة، وتهامة، ووسط المملكة، ويوجد منها 400 ألف زوج، وطيور أبلق جنوب شبه الجزيرة العربية، ويوجد منها 930 ألف زوج، وتتقارب جميعها مع الطيور الأوروبية الآسيوية.
كما يوجد طيور شمعي المنقار العربي ويوجد منها 30 ألف زوج، والنعار العربي ويوجد منها 400 ألف زوج، وتعيش في المرتفعات الجنوبية الغربية، وتهامة، ووسط المملكة، وتتقارب مع الطيور الأفريقية الاستوائية، ويوجد كذلك عصفور الشوك العربي ويوجد منه ألف زوج، ويعيش في المرتفعات الجنوبية الغربية، ويتقارب مع الطيور الأوربية الآسيوية.