وحي القلم

من هيراركية إلى نسوية! بقلم / أثير القحطاني

لم تكن قضية المرأة على مر العصور تخص المرأة وحدها، وإنما كانت دائمًا قضية يدخل فيها البعد السجالي الأيديولوجي، وهذه القضية هي قضية ما بين الإسلام والعلمانية، وحين نتحدث عن النسوية كفرع من هذه القضية فإننا أيضًا نتحدث عن صراع ما بين النسوية وفق نظرياتها الابستمولوجية وبين شريعة الإسلام.

ولهذا، فإننا لن نتحدث عنها بعيدًا عن مكان نشأتها بل سيكون حديثنا من داخل النظام الذي نشأت وترعرعت فيه؛ حتى نفهم حجم الخطأ الذي وقعت فيه المجتمعات العربية الإسلامية حينما تشربت تلك المضامين الغربية؛ فالنسوية لو نظرنا لها كقضية أو كإشكالية نجد أنها لا تنحصر في كونها فقط أزمة تخص النقل أو الترجمة، إنما إشكاليتنا حينما نتعامل مع مصطلح كهذا يتجاوز الأمر اللغوي ليشمل المدلولات والمفاهيم التي تحملها النسوية من الناحية التاريخية والناحية الفكرية، وما يستتبع ذلك مستقبلًا من سيلان لمثل هذه المفاهيم على الثقافة الإسلامية فتحدث تغيرات قسرية جراء التعامل مع هذه المداليل.

الهوية الصامتة للمصطلح

تَعمَّدْتُ تسمية العنوان الأول -الهوية الصامتة- كما يسميها عبد الوهاب المسيري، نظرًا لأن النسوية الغربية هي محل إشكال، كونها هوية غربية ولعدم قدرة المعاني العربية على التوصل للمعنى الدقيق لهذا المصطلح.

لكن النسوية لم تولد من فراغ، إنما هي وليدة الحضارة الغربية وما تحتويه هذه الحضارة من منظومة فكرية وفلسفية.

ومفهوم كمفهوم النسوية يُعتبر من المفاهيم الرخوة وقد عبر عنه د. خالد السيف، في كتابه “إشكالية المصطلح النسوي” فقال: “هي التي تتركز فيها إشكاليات المصطلح بأوضح صورها وتكون فيها المصطلحات قابلة للشحن والتفريغ من حمولته المفاهيمية لأي غرض أيديولوجي”.

وحال النسوية كحال المساواة، فحينما نريد تتبع نشأة هذا المدلول يلزمنا معرفة الأبعاد الاجتماعية التي على أساسها ظهر هذا المصطلح، وما هي الصراعات الفكرية التي جرت آنذاك؟، وما هي الثورات التي وَلدته؟، وكيف ينظر الغرب للمرأة ولحقوق المرأة؟، وما هي المؤثرات الاجتماعية التي كانت سببًا لظهور هذه النتيجة؟ كل هذا ضروري لنتمكن من التوصل لمثل هذا المدلول.

وعلى هذا، فإننا حينما نؤمن بمفهوم معين ونؤمن بكل مضامينه وببنيته الفكرية والفلسفية فهذا في الغالب سيرافقه ارتخاء من الناحية النقدية للفلسفة وأخذها بشكل مطلق وإن كانت تعرض قيمًا إيمانية، وهذا ما وصفه ابن سبعين في حالة الإعجاب عند ابن رشد بأرسطو فيقول: “وهذا الرجل مفتون بأرسطو ومُعَظِّمٌ له، ويكاد أن يقلده في الحس والمعقولات الأولى، ولو سمع الحكيم يقول: إن القائم قاعدٌ في زمان واحد لقال به واعتقده، وأكثرُ تآليفه من كلام أرسطو إما يلخصها وإما يمشي معها، ولا يُعَوَّلُ عليه في اجتهاده فإنه مقلد لأرسطو”.

وهذا ما فعله العلمانيون في عصرنا هذا حينما نقلوا النسوية بما فيها من حُمُولاتٍ تاريخيّةٍ وفكريّةٍ ومعرِفيّةٍ وفلسفية، تتعلق بوضع المرأة في الغرب ونشأت من فلسفة غربية. ومفهوم النسوية يعتبر مفهومًا متمددًا وغير قابل للثبات؛ فقد يشمل لاحقًا مدلولات أوسع من مدلولاته الحاضرة كونه متعلق بوضع المرأة الغربية فهو يتغير ويتوسع بناءً على وضع المرأة الغربية.

بل والأخطر أن المجتمعات العربية نقلت النسوية بمفاهيمها الغربية دون وعي ودون أدنى تدخل لفصل العوالق الفلسفية كمفهوم “البطريركية” و” الجندر” و” الكوتا” وهذا ما يزيد الأمر خطورةً.

وبعض الناس من المتأثرين بالخطاب العلماني يتناول مصطلح النسوية جاهلًا سبر معانيه، وهذا حال السواد الأعظم من الناس. وهنا تظهر خطورة تنحية الحقل الثقافي عن المصطلح ويزداد الأمر خطورة حينما يزداد توسع احتضان ما تقذفه الثقافة الغربية من مدلولات تتعلق بالنسوية ويتم تبيئتها داخل المجتمع الإسلامي.

والمجتمع الغربي ينتج وبشكل مستمر مفاهيم تخص النسوية، وفي ذلك يقول علي القاسمي: “إن الغرب ينتج خمسين مصطلحًا يوميًّا”. وهذا العدد كان عام 1985م، وقد زاد هذا العدد خصوصًا مع زيادة قوة الجانب المعرفي عند الدول الغربية، وكلما قوي مجتمع كان ذلك المجتمع أجدر بزيادة تدفق المصطلحات عنده بل والقدرة العالية على التسويق له في المجتمعات الأخرى.

اختراق الفكر

تنشأ الأفكار وفق ما يغرسه المجتمع في نفوس الأفراد من أفكار ترسم نهجه وأسلوب حياته ونمط تفكيره، إلا أن الأفكار التي تكون قريبة من حافة الصراع الثقافي فإنه يحصل لها اختراقٌ ثقافيٌّ؛ فإما أن يحدث تحريف للمصطلح أو تعديل عليه وفي هذا يقول انغرد ماير: “يعمد الشخص غير الاختصاصي إلى استخدامها من دون أن يفكر بالمعنى الأساسي للمصطلح الأصلي، وتحتفظ بالطبع الكلمات المجردة من صفتها المصطلحية بشبه معين بالمصطلح الأصلي، لكنها تُشْحَنُ بسلسلة من السياقات التطبيقية”.

ونجد أقرب مثال يصف هذا الاختراق هو ما حدث لمفهوم الحجاب، فالعلمانية انقسموا فيه لقسمين:

الأول: أخذ يتلاعب بالمداليل واستشهد بأصحاب القراءات المعاصرة كشحرور ومن مشى على دربه، فتجده بعدما كان مؤمنًا بوجوب الحجاب الشرعي والذي أمر به الله -عز وجل- يقول في محاولة بائسة “إن الحجاب المقصود به، حجاب العقل عن التفاهات وحجاب العين عن المحرمات… إلخ”. ثم يُذيلها بطابع الشرع حتى لا تنفر النفوس منه، فلا يقول أنا لا أؤمن بالحجاب مطلقًا، فهذا ليس بديدن العلمانية، إنما العلمانية ديدنها أن تزرع ألغامها بحذر؛ فنعم هو يؤمن بالحجاب ولكن الحجاب هو حجاب الجوارح عن الكذب وعن السرقة…إلخ. وحين تسمع النفوس المؤمنة ذلك الجانب الإيماني تبدأ تميل للخطاب العلماني دون هوادة.

الثاني: أخذ يظهر لنا أن الحجاب نعم واجب، لكن لا مانع من استحداث ما يسمى بحجاب الموضة، حيث تلبس المرأة ما أرادت من زينة و لا مانع من أن ترتدي الملابس الفاتنة والضيقة إن كانت تغطي شعر رأسها!.

إن اخضاع الحجاب لمتطلبات العصر وفق ما يمليه الذوق العلماني يجعل من الموضة ضابطًا في موضوع الحجاب حتى لو تحلل من المدلول الشرعي.

ولا يخفى على أحدٍ معرفة أن هناك محاولةٌ لـ”شيطنة الحجاب” وخصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فأصبح بعدها كمدلول يدل على “الإرهاب” وإن كان هذا الحجاب متحررًا من جل الضوابط الشرعية، إلا أنه كهوية يرى الغرب أنها تدل على الإرهاب، و كان للإعلام دوره البارز في تأكيد مثل هذه الصورة النمطية ونشرها وسط المجتمعات الغربية، فقد حرصت وسائل الإعلام على الربط ما بين الإرهاب وصورة الحجاب. وقد قال عالم الاجتماع غوستاف لوبون: “الجمهور يفكر عن طريق الصور، والصور المتشكلة في ذهنه تثير بدورها سلسلة من الصور الأخرى دون أية علاقة منطقية بالأخرى”. ورغم أنه لا يوجد أي علاقة بين الحجاب وبين الإرهاب إلا أن تلك المحاولات تنجح في خلق علاقة منطقية.

في عام 1981م أصدر الرئيس التونسي “الحبيب بو رقيبة” قانونًا اسمه المنشور 108، ونص في هذا القانون على منع ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التابعة للدولة (الجامعات، والمستشفيات، والمراكز الحكومية) معللًا على هذا بقوله: “إن الحجاب ينافي روح المعاصرة”. وليس هذا فحسب، بل ظهر في إحدى لقاءاته وهو ينزع عن مجموعة من النساء الأغطية من رؤوسهن وكأنه بذلك يرحب باستنبات الفكر العلماني في دولة تونس، ولا ريب في أن يظهر بعد ذلك دعاة العلمانية فيقولون إن الحجاب لا شأن له بالإسلام، فهذا الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي التونسي “مهني الأمين” يقول: “الحجاب لا يمت للإسلام بأية صلة ولا علاقة له بهوية البلاد وأصالتها”.

وهذا ما جعل من مفهوم الحجاب يخضع لحالةٍ من الضعف بعد هيمنة الثقافة الغربية العلمانية؛ فتوارت بعدها كل المعاني المكتنفة لهذا المفهوم من (حشمة، وستر، وعفاف)، فالله يقول في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب 59]. والآيات في القرآن كثيرة، فيما يخص العفة والستر والطهارة وحفظ الفرج وكل ما يثير الغرائز من الزينة، وقد وضع الله في آدم ميلًا فطريًا إلى الأنثى وهذه الفطرة لا يمكن أن تغيرها الحكومات، لذلك كان الحجاب كتحصين للأنثى، فالجانب الأنثوي بما فيه من إغراء إن لم يحصن كان أدعى لهتك الستر واختلاط الأنساب وضياع للعرض وتَفكُّكٍ للأُسَرِ، وبالحجاب تستطيع المرأة التعامل مع المجتمع كإنسان لا متاع أو كشيء يكون التعامل معه لأجل المتعة.

ولو نظرنا للحجاب من مدلول شرعي نجد أن الحجاب ليس هو المقصد بل المقصد هو حماية المرأة.

هيراركية

الثقافة الغربية في بداياتها انطلقت من مؤثر فلسفي تجاه المرأة الغربية، وربما هذه الثقافة كانت سلبية على المرأة أكثر من كونها إيجابية حيث ولدت بعد ذلك حالة من الصراع تجاه هذه المفاهيم، وفلسفة الحضارة الغربية تنطلق من وجود هيراركية في الكون والهيراركية هي التراتبية أو التسلسل لأشخاص، لأحداث أو لوقائع بحيث يكون كل طرف من هذه السلسلة أرفع من الطرف السابق وأعلى منه منزلة، وبالتالي ما دام أن هناك هيراركية في الكون فإن ما ينطلق من الموجودات المادية ينطلق كذلك من الموجودات البشرية. يقول أرسطو: “فلا بد أن يكون هناك هيراركية اجتماعية أيضًا أي داخل عالم الإنسان نفسه، فهناك درجات ومراتب من البشر يعلو بعضهم بعضًا على نحوِ ما هو قائم في الكون تمامًا”. وفي هذا الترتيب كانت المرأة في مرتبة دونية، إذ يقول أرسطو: “الكائن البشري هو الذكر بشكلٍ رئيسي، بينما ترتبط النساء بشكل رئيسي بالأسرة والبيئة والأهل”. ووضع أرسطو النساء مع العبيد في وضع سفلي نسبة إلى الرجال الأحرار، فكلاهما ينتميان “للمنزل وليس للحياة العامة”.

صورة المرأة هذه هي المتجذرة في الخطابات الغربية؛ حيث إنها أُخذت من الحضارة اليونانية ثم غُرست في الحضارة الغربية، فحتى رواد الفكر الغربي الحديث لم يبتعدوا عن أرسطو، فهذا جان جاك روسو يقول: “المرأة جُعلت أساسًا لتحقيق رغبات الرجل، وإن المرأة التي تصلح لأن تكون زوجة يجب أن تتوفر فيها خصائص كالجمال ونقاوة روحها القادرة على إضفاء روح المرح على الرجل”. من وجهة روسو فالمرأة الغربية إنما تستخدم كأداة يأنس الرجل من خلالها.

وهذا كورنثوس، يقول: “لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة بل المرأة خلقت من أجل الرجل”.

وهذه الدلالات السلبية التي أحاطت المرأة الغربية من جميع الجهات، كانت هي نتاج ظهور مثل هذه الفلسفات؛ فانطلقت بعدها المرأة من العبودية المطلقة إلى النسوية بما فيها من حرية مطلقة مما زاد الأمر نكالًا عليها، فلا هي التي انتصرت ولا هي التي أخذت حقوقها.

والعجيب أن بعض النساء المسلمات لم يمر بهن ما مر بالمرأة الغربية، ولكن الإعجاب الأعمى جعلهن ينقدن لمثل هذه الفلسفة الخطيرة التي تدعو لنقض الحجاب، وفرض المساواة، وخلق نوع من العدائية بين المرأة و الرجل، كل هذا لخلق مجتمع متفكك مترامي الأطراف.

وأخيرًا.. وحتى ننقذ هذه المفاهيم من القابلية للاختراق، علينا أن نزيد في الإنتاج العلمي وأن نُكَثِّف الاهتمام بهذا الموضوع وأن نعمل في جميع الجوانب، بدءًا من الحرف حتى صناعة الصورة.

 أثير عبد الله القحطاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى